مخنارات من الشعر الايطالي
فمونتالي مثلاً كثير الغموض، وعبارته الشعرية- كما يقول المترجم- عبارة منوتالية صرف، وهو من أكبر شعراء الرمزية (الهرمتية) المغرقة في الغموض، فبالرغم من أنه يستهل قصيدته (نهر الفرات) استهلالاً عادياً واضحاً، إلا أنه لا يلبث أن يدخل في متاهات الرمزية، ويغوص في دهاليزها المعتمة ومنعطفاتها الوعرة:
رأيت نهرَ الفرات في الحلم
في جريانه البطيء ما بين
منخفضاتٍ متآكلةٍ ووقفاتٍ عريضةٍ في فجوات
من الرمل مزدانةٍ بنسيجٍ من عناكبِ الشجر
تُرى ماذا رأيتَ أنتَ خلال ثلاثين سنة (أو مئة)...
أما شعر كوازيمودو فيعكس ارتباطه الوثيق بمسقط رأسه صقلية، ولا سيما بأبنائها الفقراء المحرومين المعرّضين للملاريا على ضفاف المستنقعات والأنهار:
.... لقد نسيت البحرَ والأصدافَ
وأغانيَ الرعاةِ الصقليين
وقرقعةَ العرباتِ على الطرق
التي يرتعش فيها الخرّوبُ في دخانِ القش...
أواه لقد تعب الجنوبُ من حملِ الموتى
على جوانبِ مستنقعاتِ الملاريا
لقد تعب من الوحدةِ، ومن ثقلِ السلاسل.
أما المرحلة الثانية من شعره فتعكس معاناته الإنسانية أمام الحرب والظلم والديكتاتورية، وأمام مشاهد الجثث المعلقة على أعمدة التلغراف في الشوارع، وآثار التدمير والخراب، وأمام السجون والتعذيب والقتل بالجملة، حيث خرج الشاعر عن محيطه الضيق في صقلية خاصة وإيطاليا عامة، ليرتبط بالإنسان حيثما كان، تُجاه الظلم والحرب والمآسي.
يقول في قصيدته «ميلانو عام 1943»:
لقد ماتتِ المدينةُ
وسمع آخرُ دويٍ في قلبِ نهرِ نافيليو
وسقط الحسونُ عن السلكِ الهوائي المرتفعِ فوقَ الديرِ
حيث كان يغرد قبلَ الغروبِ
لا تحفروا آباراً في أفنيةِ البيوتِ
فلم يعدِ الأحياءُ يعطشونْ
ولا تلمسوا الموتى الذين احمرت جسومهم وانتفخت
دعوهم في أرضِ بيوتهم:
فلقد ماتت المدينةُ. ماتت.
ويسخر من إنسان زمانه الذي سخّر علمه للإبادة دون حب، أو دون مسيح، ويشبهه بإنسان الحجر والمقلاع في العصور البدائية الأولى:
ما تزال إنسانَ الحجرِ والمقلاعِ
يا إنسانَ زماني. لقد كنتَ في الطائرة
ذاتِ الأجنحةِ الشريرةِ، معاول الموت
- لقد رأيتك - داخل العربةِ الناريةِ مع الحرابِ
وعند عجلاتِ التعذيبِ. لقد رأيتك: كنتَ أنتَ
بعلمكَ الدقيقِ المسخرِ للإبادةِ
دون حبٍ، ودون مسيحٍ...
ثم يصوّر الخراب والدمار اللذين خلفهما الإنسان المعاصر في المدن التي استحالت أنقاضاً، ولم يعد هناك من يصرخ «يا إلهي لماذا تركتني»:
لقد انتهيتم من قرعِ الطبول
للموتِ الذي ينتشر في جميعِ الآفاقِ
خلفَ النعوشِ المتراصةِ تحت الأعلامِ
وفرغتم من نشرِ الجراحِ والدموعِ المتظاهرةِ بالرحمةِ
في المدن التي أصبحت دماراً وخرائبَ
ولم يعدْ ثمة من يصرخ قائلاً: «يا إلهي
لماذا تركتني؟». ولم يعدْ يجري حليبٌ ولا دمٌ
من الصدورِ الطعينة. والآن
وقد أخفيتم المدافعَ بين أشجار المنوليا
دعونا نعشْ يوماً واحداً دون سلاحٍ، على العشبِ
ونصغي إلى خريرِ الماءِ الجاري...
فلا يتعالى في مطلع الليلِ
نذيرٌ بإطفاءِ الأنوار. أعطونا يوماً واحداً
يوماً واحداً فقط، يا سادةَ الأرضِ
قبل أن يعودَ فيمتزجَ الهواءُ والحديدُ
فتحرق جبيننا إحدى الشظايا الملتهبة
هكذا يدعو كوازيمودو شعوب الأرض إلى السلام، ويظهر نفوره وتبرمه واشمئزازه من إنسان زمانه، الذي داس القيم الرفيعة في الحياة، وتحول إلى محارب عنيد، لا هم له إلا الفتك والتدمير والإبادة.
ونتوقف قليلاً عند الشاعر المناضل سيرجيو سولمي، الذي قطع دراسته أثناء الحرب العالمية الأولى، والتحق بالجيش برتبة ضابط، ثم عاد إلى تورينو بعد الحرب وأسس فيها مجلة أدبية دعاها (الزمن الأول). كما شارك في المقاومة السرية ضد الفاشية والنازية، واتخذ اسماً أدبياً مستعاراً واعتقل مرتين، فهرب في المرة الأولى من زنزانته، وفي المرة الثانية خرج من السجن وأعيدت إليه حريته. يقول في قصيدة «وطني»:
ما أبرعكَ في إقناعي!
كنت مخدراً من سنين، واليوم
يشعل النفسَ عطرُ أعشابك المحروقةِ القوي
ويجرحني بلقاءٍ جديد
وأعود فأستسلم إلى لعبِ غيومك
وصورتي الحائرةُ تعكسها بلطفٍ
مرآةُ سمائك
وعلى مشهدِ الطبيعةِ الصافي
أراني في صفٍ واحدٍ مع أشجارك
وينتهي بنا المطاف عند الشاعر نينو موتشيولي، الشاعر والنائب في البرلمان الصقلي الذي تخصص في التاريخ والفلسفة، ثم عمل بعد تخرجه في حقول الصحافة والنشر والتعليم. يتميز شعره بنكهته الصقلية الخاصة، فهو شاعر الأرض الصقلية بلا منازع، وشاعر الفلاح الصقلي المكافح العنيد، والصابر على الخشونة والقسوة. يقول في قصيدته «أنت لا تعرف صقلية»:
أنت لا تعرف صقلية....
وأيدي الرجالِ الملأى بالحقدِ
كأشجارِ الزيتونِ العربيةِ المتقوسةِ
بفعلِ العاصفةِ
أنت لا تعرف هذه الجزيرةَ
وعناءَ العيش، وتكاتفَ الخبزِ والألمِ
والبغضَ- الحبَ لمن يعيشون
مع سخريةِ الماعزِ...
لقد أوحت طبيعة صقلية الجبلية، وحياة الفلاحين القاسية الصعبة، كثيراً من الصور العابسة المتجهمة لهذا الشاعر، فالأرض القاسية ذات البثور كراحات أيدي الفلاحين، والفلاحون أشبه بالصبّار كلهم أشواك من الخارج، أما قلوبهم فكأنما هبطت من نجوم بعيدة إلى دنيانا، وهم يعتقدون بأن القلب ما يزال يخفق بالحب، وأن الكرامة والشرف ما يزال لهما قيمة، ألا يمكن القول بأن طباعهم متأثرة إلى حد بعيد بطباع العرب وأخلاقهم وعاداتهم، الذين عاشوا معهم قروناً عدة في أثناء الحكم العربي؟ فلنسمعه يقول في قصيدته «الفلاحون»:
أنا أعرف صمتَ الفلاحين
العاكفينَ على التعبِ
وهم يموّجون الحبوبَ من الفجرِ حتى الغروبِ
أنا أعرف الأرضَ القاسيةَ
الأرضَ ذاتَ البثورِ
مثلَ راحاتِ أيديهم
أتدري: أنهم أشبهُ بالصبّارِ
كلهم أشواكٌ من الخارج
فإذا بلغت إلى قلوبهم....
بَدَوا وكأنما هبطوا من نجومٍ بعيدةٍ
إلى دنيانا
وهم لا يزالون يعتقدون بأن القلبَ
ما يزال يخفق بالحب
ويظنون أن الكرامةَ والشرفَ
ما تزال لهما قيمةٌ.