الهرمنة في الموسيقى العربية
تأليف الموسيقار اللبناني سليم سحاب
هل يمكن تطوير الموسيقى العربية
باستعارة الهارمونيا الكلاسيكية الغربي كان يمكن لموضوع علاقة الهارمونيا
الأوربية بالموسيقى العربية أن يظل خارج نطاق البحث لولا أنه انتقل منذ مدة
طويلة من الحيز النظري إلى الحيز العلمي ليس فقط عبر محاولات كثيرة لتطبيق
قواعد الهارمونيا الأوربية في شتى مجالات الموسيقى العربية بل إن المسألة
تحولت بطروحاتها النظرية وتجاربها العملية على يد عدد كبير من الملحنين
أصحاب الألحان الرائجة جماهيريا إلى مادة متداولة في الثقافة الشعبية أبرز
مافيها انتشار ذلك الاعتقاد الخاطىْ بأن الموسيقى العربية التي لا تستعير
آفاق الهارمونيا الأوربية هي موسيقى متخلفة بعيدة عن التفكير الموسيقي
وبالتالي فإن معيار التطور العلمي لأي نتاج موسيقي عربي معاصر
هو مدى اقترابه أو عدم اقترابه من صيغ
الهارمونيا الأوربية إن هذا الرأي الشائع هو خديعة علمية مكشوفة سببها عدم
التعمق الكافي في التعرف العلمي بكل الأعماق النظرية
للهارمونيا الأوربية منجهة وللمقومات النظرية للمقامات العربية ومكوناتها من جهة أخرى وهذا ما سأعرضه في هذا البحث...
ن عِقد
النقص أمام العلم الأوربي قد شوشت كثيراً احتمالات الاستفادة من العلوم
الموسيقية الأوربية فأصبح استعمال الكليشيهات الهارمونية هو الطابع المشترك
لكل من أراد استعمال الهارمونيا في التوزيع الموسيقي دون الأخذ في الحسبان
أن الهارمونيا الأوربية وضعت لتلائم طبيعة اللحن الأوربي البعيد كل البعد
عن طبيعة اللحن العربي وسنرى لاحقاً وجه الاختلاف هذا..
-ظهور تعدد الأصوات :
المعروف أن أول نشاط موسيقي قام به الإنسان هو فهو النشاط الموسيقي الوحيد
الذي لا يحتاج إلى تصنيع آلة موسيقية فآلة الغناء هي الحنجرة والمعروف
تاريخيا أن التصنيع ظهر كنشاط إنساني بعد مدة طويلة من ظهور المجتمعات
البشرية البدائية أما ظهور الغناء متعدد الأصوات
فتقول نظرية موسيقية أوربية أن سببه قد يكون ظهور النشاط الغنائي الجماعي
وإذا لم يكن الغناء الفردي يشكل أي مشكلة بسبب أن المغني كان يختار الطبقة
المريحة والمناسبة لصوته فإن الغناء الجماعي فرض مشكلة كبيرة وهي عدم
ملاءمة الطبقة الواحدة لجميع الأصوات المشتركة في الغناء ومن هنا ظهر
النشاز ومع الوقت اتجه النشاط الموسيقي الغنائي نحو تنظيم الأصوات الناشزة
في الغناء الجماعي الخارجة عن اللحن الأحادي الأساسي والاستفادة من اختلاف
طبقات الأصوات المؤدية وهكذا ظهر حسب هذه النظرية الموسيقية تعدد الأصوات
في الغناء الجماعي،
هذه الظاهرة تفشت في الموسيقى الشعبية لدى شعوب أوربا وأفريقيا ويلاحظ عدم
تفشيها لدى الشعوب الشرقية طبعا من المضحك افتراض السبب في عدم وجود النشاز
في الغناء عند الشعوب الشرقية بل إن السبب ربما هو أن الشعوب الشرقية عرفت
الآلات الموسيقية وتفننت في صناعتها قبل ظهور هذه الآلات وصناعتها في
أوربا
فأصبح النشاط الموسيقي عند شعوب الشرق مقسماً بين الغناء والعزف ومصاحبة
الغناء فيما انحصر النشاط الموسيقي في أوربا القديمة وأفريقيا بالغناء فقط
لعدم ظهور الآلات الموسيقية لمدة طويلة لذا تطور الغناء عند هذه الشعوب حتى
وصل إلى تعدد الأصوات..
الموسيقى في أوربا منذ القرون الوسطى :
مع ظهور الكنيسة في أوربا أصبح الغناء الكنسي ولا يزال من أهم الشعائر
الدينية فكثرت الترانيم الدينية المأخوذة حكماً من التراث الغنائي الشعبي
وأهمها الترانيم الجريجورية وهكذا تطورت الموسيقى وظلت مستندة إلى هذا
التراث وجاء عصر البوليفونيا متوجاً لغة تعدد الأصوات الموسيقية بمدرسة
الباروك وعلى رأسها باخ العظيم الذي يعد تراثه خلاصة المدرسة البوليفونية
من الناحية المدرسية ومن الناحية الإبداعية
وبعدما كانت العلاقة مهمة في البدء
في التجانسات العمودية فقد أصبحت فيما بعد مهمة في اللحن الأفقي فأصبح من
الضروري في الغناء أوالعزف لدى أداء الدرجة الرابعة أن تكون متوترة ومشدودة
نحو الدرجة الثالثة هبوطا بما يذكر بهذه العلاقة كذلك صارت الدرجة السابعة
مشدودة نحو الثامنة صعودا وبذلك تأتي الدرجة السابعة متوترة لتوقها إلى
الحل أي إلى الاستراحة على الدرحة الأساسية للسلم الموسيقي لذا صنفت الدرجة
الرابعة على رأس الأصوات غير الثابتة
وسميت الدرجة السابعة الحساس بالنظريات
الموسيقية الفرنسية إذا عدنا إلى النظام الهارموني وحللناه نرى أهمية ظهور
العلاقة اللحنية بين الدرجة الرابعة والثالثة هبوطا والسابعة والثامنة
صعودا.
وهذا ما يثبت أن السلم الموسيقي
الأوربي سبك سبكاً لكي يتلاءم مع الوظيفة الهارمونية 1 4 5 1 هذه الوظيفة
الهارمونية أصبحت الهيكل العظمي التي قامت عليه المدرسة الموسيقية الأوربية
الكلاسيكية وما لحقها لغاية بداية القرن العشرين
وبلغ هذا النظام الوظائفي الهارموني
حداً من الصرامة جعل أي خروج على هذا التسلسل التجانسي هرطقة موسيقية ومع
ترسيخ اللغة الموسيقية الجديدة التي استحدثتها الوظائف الهارمونية أصبح
اللحن القريب من الطابع الشعبي الصرف يتعارض مع اللغة الجديدة هنا أصبحت
الحاجة ملحة لاستحداث نظام لحني يتناسب مع اللغة الهارمونية الجديدة فكان
ظهور السلم الموسيقي الأوربي الحديث توناليتي ولن أسميها مقاما للفارق
النظري الكبير بينهما كما سنرى لاحقا.
- السلم الموسيقي في الموسيقى العربية :
ماذا عن السلم الموسيقي القديم هل
اختفى من الاستعمال الموسيقي كلا إنه السلم الموسيقي للموسيقى الشعبية في
كل العالم وهو أساس الموسيقى الشرقية وبالذات الموسيقى العربية محور
اهتمامنا ما هو الطابع الأساسي للمقامات الشرقية عموما والعربية خصوصا
وهل فيها علاقات خاصة بين درجاتها نعم
هناك علاقة مهمة تشكل التركيب الأساسي للمقامات الشرقية وتتلخص في علاقة
جميع درجات المقام من جهة والدرجة الأساسية للمقام من جهة أخرى أي أن
الدرجة الأساسية تشكل نقطة الجذب والثقل في المقام التي تؤول إليها كل
الدرجات الأخرى وهذا ما يفسر أهمية القفلة في الموسيقى العربية
فهي تشكل المحطة الأساسية في صلب
التلحين أو الغناء أو التقاسيم إذن وتلخيصا للفوارق النظرية بين السلم
الموسيقي الغربي والمقام الشرقي نقول إن في السلم الموسيقي الأوربي درجتين
تتقاسمان تجاذب باقي درجات السلم الثالثة لجذب الدرجات نزولا من خلال
الرابعة والأولى أو جوابها لجذب الدرجات صعودا من خلال السابعة وفي المقام
الشرقي درجة واحدة تشكل محور التجاذب الوحيد وهي الدرجة الأولى الأساسية أو
جوابها في المقام ولكن هذه الفروقات البسيطة على ما يبدو هل تكفي لأن تكون
فوارق مبدئية تحول دون استعمال الهارمونيا الأوربية الكلاسيكية في
الموسيقى العربية أم أنها حجة فقط يتخذها المتعصبون للموسيقى العربية ضد
الموسيقى الأوربية والعلم الأوربي.
- السلم الموسيقي والمقام :
في سنة 1958 ظهر كتاب للموسيقي النمساوي اليوغسلافي المولد الأمريكي
الجنسية رودلف ريتي الكتاب ظهر تحت عنوان المقامية اللامقامية والمقامية
الشاملة وفي الطبعة الثانية 1962 ظهر تحت عنوان جديد السلم الموسيقي في
الموسيقى المعاصرة وقد ورد في هذا الكتاب مقطع في منتهى الخطورة فيما يتعلق
بالفوارق المبدئية بين السلم الموسيقي الأوربي الكلاسيكي وبين السلم
الموسيقي الشرقي نورده حرفيا نظراً لأهميته ولارتباطه الشديد بموضوعنا...
__________________
منذ نحو مائة عام اصطدم الموسيقيون
الأوربيون الذين وجهوا اهتمامهم إلى الألحان الشرقية الغربية بواقع صاعق لا
شك فيه إن هذه الألحان المذكورة لم تكن في غنى عن المصاحبة الهارمونية
وحسب بل وإنها تقاوم هذه الهارمونيا وقد باءت بالفشل الذريع كل المحاولات
لجعل هذه الألحان مقبولة لأذن الأوربية أو الباسها هارمونيا جميلة أو سكبها
في القوالب الهارمونية المستعملة
وقد ظهرت استحالة تقنية لذلك بدون
تغيير أصوات هذه الألحان أو بدون تغيير الجملة اللحنية وكان أي تغيير يشوه
طبيعة اللحن نازعا عنه جماله وعطره الخاص ونزيد على ذلك كما علمنا تاريخ
الموسيقى أن الألحان ذات الطابع الهارموني لم تكن تستطيع أن تشارك في صنع
الحضارة الموسيقية قبل ظهور التفكير الموسيقي الهارموني
ولذلك سمينا هذا النوع من السلالم
الموسيقية بالسلم الموسيقي الهارموني وبالتالي فإذا كانت الألحان الدائرة
حول المركز المقامي تقاوم الهارمونيا في حال وفي حال آخر لا تنتشر موسيقى
إلا إذا اقترنت بالهارمونية فإن هذه الظاهرة تشكل دليلاً لا يقبل الجدل عن
وجود نوعين من السلالم الموسيقية ومن المنطقي حتماً أن الموسيقى ذات الطابع
اللحني اختفت من الاستعمال في فترة سيطرة التفكير الهارموني في الموسيقى
وكان من المحال ظهور هذه الموسيقى اللحنية الطابع قبل الخلاص من السلم
الموسيقي الهارموني
وقد حدث هذا في نهاية القرن الماضي مع ظهور الموسيقى المعاصرة ومن الطبيعي أن فكرة السلم الموسيقي اللحني ظهرت عندئذ
هذا دليل موسيقي من جهة أخرى على الاختلاف الجذري بين طبيعة السلم الموسيقي الهارموني في الموسيقى الكلاسيكية الأوربية...
__________________