يقول أوشو:
"رسالتي لك ليست معتقداً أو ديناً تعتنقه، ولا هي فكر فلسفي تتبعه. إنها نوع من خيمياء الإنسان... إنها علم للتحول، لذا فلن يستدعيها إلا أولئك الراغبون في ملاقاة الموت على أمل ولادة جديدة، إلا أولئك الشجعان الذين هم على استعداد للإصغاء رغم معرفتهم بما لهذه التجربة من خطورة".
"الإصغاء هو الخطوة الأولى على طريق الولادة الجديدة، إذن هذه ليس فلسفة أو معطفاً ترتديه وتتفاخر به وليس معتقداً تعتنقه يعطيك أجوبة على أسئلة مقلقة تؤرق حياتك... إنه أبعد من ذلك بكثير، إنه ليس أقل من الموت والانبعاث".
"أنا لا أنتمي إلى فكر ديني معين، أنا بداية وعي جديد للإنسان لذلك أنا غير مرتبط بالماضي الذي لا يستحق حتى أن نتذكره".
...هذا الحكيم أو المعلم -كما يسمّونه- لديه آلاف الكتب والمقالات، أكثر من 13 ألف ساعة مسجلة، وقد أجاب على أكثر من 100 ألف سؤال...
يقول في إحدى مقالاته: ((أنا لا أدعوك إلى أن تصبح هندوسياً أو يهودياً أن تصبح مسلماً أو أن تصبح مسيحياً، أنا هنا لأساعدك لتصبح متديناً تقياً))... وعُرف عنه إصراره بعدم رغبته أن يوضع له اسم أو توصيف فكري معين، انطلاقاً من إيمانه أنه لا توجد فلسفة تصف الحقيقة بشكل مطلق.
وفي إحدى محاضراته تحدث عن نفسه قائلاً:
"أنا أساعدك في إدراك السكينة في روحك، هذه ليست تعاليم ولا عقيدة ولا حتى قانون ديني محدد. لهذا أستطيع أن أقول أي شيء، أستطيع أن أناقض نفسي في الليلة مئات المرات".
"إنني في حالة صعبة جداً، فمنذ اليوم الذي دخل فيه حبُ الله فيّ، اختفَت الكراهية في داخلي.. لذلك حتى لو أردتُ أن أكره فلن أستطيع. حتى لو أتى الشيطان أمامي لا يسعني إلا أن أحبه... ليس لدي أي خيار آخر –لأنني قبل أن أستطيع أن أكره، أحتاج إلى وجود الكراهية في داخلي، وبغير ذلك لا أستطيع...
من المستحيل أن يتعايش الحب مع الكراهية في نفس القلب. إنهما متناقضان تماماً.. مثل تناقض الحياة والموت.. الحب والكراهية لا يمكن أن يتواجدا في نفس القلب أبداً.."
ويمثّل أوشو ظاهرة فريدة في مرجعيته الروحية، إذ بالرغم من كونه قد نشأ في مجتمع هندي يدين بمختلف الأديان إلا أنه جمع كل الأديان والمعتقدات بخلاصتها الروحية في تعاليمه، فلا تخلو نصوصه من الرجوع إلى إرث الصوفيين بما فيهم كبير وابن الرومي وابن عربي، كما يعود إلى روحانية السيد المسيح كما يعود إلى بوذا وكريشنا وفلسفة الموحدين.
غالباً ما يتم تعريف أوشو بالقول بأنه: لم يولد أبداً، ولم يمت أبداً ولكنه زار هذه الأرض ما بين 11 ديسمبر 1931 وحتى 19 يناير 1990. إنه المتصوف المستنير... وخلال ثلاثين عاماً أمضى وجوده فيها عبر المحاورات -تلك التي تذكرك بأيام الفلاسفة اليونانيين- ولقد ناقش أفكار الحكماء في العالم واستمر في محاولة طرح رؤية جديدة وحديثة حول كل الأشياء الخاصة والمحيطة بالإنسان. لقد ناقش معيداً الحياة إلى الأوبانيشاد، جوردجيف، كريشنا، بوذا، والزرادشيتة.. كما تحدث حول أفكار الهاسيدز والصوفية واليوغا والتانترا والتاو وغيرها... لقد جلب أطراف الحكمة التي راكمتها البشرية إلى بعضها البعض.
لقد تجاوزت تعاليم أوشو كل الفكر المؤسسي الديني والروحاني المنظم، وحاول أن يساعد الإنسان على تلمس طريقه في الزمن الحالي من سعي الفرد إلى معنى الحياة... وقد وضعت صحيفة سندي تايمز البريطانية أوشو كواحد من أهم مئة شخصية شكلت القرن العشرين. أما أوشو فإنه قدّم توجهاته بأنها محاولة للمساعدة في خلق مناخ لولادة نوعية جديدة من البشرية ترتقي بأرواحها وتدرك وجودها وروابطها في هذا الكون.
إن أوشو يسعى لأن يجمع بين الخيوط التي نسجت روحانية الشرق مع الفكر العلمي للغرب في الإنسان الحديث، وقد طور أوشو أساليب التأمل لتكون جزءاً من الحياة اليومية للإنسان هادفاً نحو الصفاء النفسي والروحي والخروج من رحى الاستلاب والاغتراب.
في الحادي عشر من كانون الأول ولد أوشو في كوتشوادا مادهيا برادش في الهند. ومنذ بداية شبابه راح يبحث عن الحقيقة، انطلاقاً من تجاربه واختباراته وليس من خلال المفاهيم الدينية والاجتماعية السائدة في مجتمعه أو من خلال ما حاول البعض أن يلقنه من معارف ومعلومات، وما أن بلغ الحادية والعشرين حتى اكتملت تجربته مع الحياة.
وبعد دراسة عميقة لسيكولوجيا الإنسان المعاصر ومنذ أواخر الستينيات من القرن الماضي شرع أوشو يطور تقنياته التأملية الديناميكية لمساعدة "الإنسان المعاصر المثقل بتفاهات التقاليد العتيقة، وهموم الحياة اليومية"، لمساعدته على اكتشاف ذاته من خلال التأمل والتحرر من الفرضيات والأفكار المسبقة، وتطهير النفس من رواسب المفاهيم البالية.
في بداية السبعينيات من القرن الماضي بدأ الغرب يتعرف على أفكار أوشو. عام 1974 وفي مدينة بونا الهندية تأسست حلقة فكرية حول أوشو، ومنذ ذلك التاريخ والزوار يقصدونه للاستماع إليه رغبة في التحول من عالم المادة إلى عالم الروح ومن عالم الروح إلى عالم المادة، ولم يترك أوشو جانباً من جوانب الحياة إلا وتحدث عنه داعياً إلى تطوير الوعي عند الإنسان والارتقاء بالروح الإنسانية إلى ما هو أبعد من المفاهيم الثقافية السائدة، إلى التعرف على الحياة من خلال الممارسة اليومية واختبار مدى أهمية الذات الإنسانية.
أهمية حكمة أوشو أنه يخاطب الإنسان في جوهر كيانه، بلغة بسيطة عميقة صادقة ومفهومة، وفلسفته تصلح لكل زمان ومكان، ويتمتع بقدرة عجيبة على إضاءة الأعماق المظلمة للنفس البشرية حيث يعشش الخوف والقلق.
يوصلنا أوشو لحقيقة لا تستقيم الحياة بدونها وهي: علينا أن نُظهر وجهنا الحقيقي مهما كان الثمن، ويبيّن لنا بأمثلة عديدة أن الناس الذين يعيشون بأقنعة ويُظهرون عكس ما يضمرون، يصابون مع الزمن بانفصام داخلي، وتتدمر ثقتهم بنفسهم بالتدريج... ولن يعرفوا معنى الهدوء والاستقرار الداخلي.
فالصدق مع الذات أولاً ومع الآخر ثانياً، هو أساس بناء علاقات صحيحة في مجتمع سليم...
لكن كيف يمكننا أن نعرف ذاتنا الحقيقية؟! يبين لنا أوشو أن عملية البحث عن الذات أشبه برحلة شاقة، إذ يجب علينا إسقاط جميع الأفكار الموروثة عن أنفسنا، فالإنسان يجمع كل ما يقوله الناس عنه، ويجعله هويته...
إننا ننسى صفاتنا الأصيلة ووجهنا الحقيقي، ويصير هدفنا الحصول على إعجاب الناس وتقديرهم ورضاهم، وللأسف العالم الذي نعيش فيه ليس متحضّراً كما يدّعي، بل هو عالم بربري وبدائي يمجّد القوة التي غالباً ما تكون وحشية وظالمة ومنافقة...
باختصار يدفعنا أوشو للمجازفة... يقول بإيمان: جازف لتكون حقيقياً. وكل الوقت الذي عشناه باستخدام الشخصية الزائفة هو انتحار بطيء نمارسه على أنفسنا.
في كتابه الذي يتناول فيه موضوع الذكاء والإبداع، يعرّف أوشو الإنسان الذكي بأنه الثائر، وبأنه الذي يمتلك القدرة على اكتشاف غير العادي في العادي.
ويقول إن جميع أنواع الإبداع هي حدسية، وبأن معظم الاكتشافات العظيمة تحققت بواسطة الحدس وليس الفكر.
ويخصّص أوشو عدة كتب عن أهمية التأمل في الحياة، ويعرّف التأمل بأنه القدرة على أن تكونَ سعيداً وأنتَ وحيد، سعيد بنفسك، كسعادة الطيور في تحليقها..
يحفّزنا أوشو دوماً على اكتشاف آفاق جديدة للحياة، يجعلنا نفهم العالم حولنا وكيف نتعامل معه، فنحن في الواقع لدينا نظريات عن الحياة، لكننا لا نعيش عمق الحياة الحقيقية. ورؤوسنا مليئة بأفكار نعتقد أنها الحقيقة المطلقة، لكننا لا نفهم أن الحقائق نسبية... إن إنسان اليوم في حالة نفسية بائسة حقاً، معظم حواسه معطلة يعيش في حالة تجمّد، متشبث بعقائد جامدة تعيقه عن التواصل الحقيقي مع الناس، عقائد جامدة فارغة من الروح والحب، حتى حديث الناس مع بعضهم فارغ، إذ إننا نصغي لبعضنا بدافع التهذيب وليس إصغاءً حقيقياً، إصغاء عقل لعقل وقلب لقلب...
يساعدنا أوشو في كتبه القيمة على أن نترك أفكارنا البالية تتساقط كما يتساقط الورق اليابس عن أغصان الأشجار، يزيل الصدأ عن أفكارنا وأحاسيسنا، ويفتح مسامنا لنور الحقيقة...
يدلّنا على الأصالة الحقيقية الكامنة في نفوسنا، والتي ضيّعناها بسبب الضغوط الهائلة لهذا الزمن، وبسبب خوفنا من الحياة...
إننا نحتاج لترميم قوانا المُخدّرة بالخوف والقلق، والمشلولة بالإحباط، نحتاج لفلسفة صادقة عميقة مثل "فلسفة" أو نظرة أوشو تعيننا حقاً في التصدي للزمن المشحون بكل أنواع المشكلات والإحباطات، وخلق الفرح والأمل، إذ لا معنى للحياة بدونهما..
تدعو أفكار أوشو الإنسان إلى التجذّر في الوجود وفتح النوافذ على الوجود، بأن يذهب الإنسان إلى الله لا نتيجة للخوف، وإنما من خلال الحب. "المحبة" ليست مسيحية، ولا إسلامية، ولا هندوسية. وإذا كان القديس يوحنا يرى أن "الله محبة"، وإذا كان نبي جبران يعكس المقولةَ نفسَها في قوله: "لا تقل: الله في قلبي، ولكن قُلْ: أنا في قلب الله"، فإن أوشو يقول "الحب هو الله". وفي هذا اقتراب من مفهوم ابن عربي لـ"دين الحب": "الحب ديني وإيماني."
أحياناً، نجد أنفسنا منغمسين في شيء ما، وفي لحظة التذكر، نخرج من ذواتنا، نعيد تركيب أنفسنا، فتزدحم الأفكار في رؤوسنا فيقول أوشو: "انتقِ الأفضل منها، ستكون أمامك على شاشة الوجود ومن ثم تختفي، كن منتبهاً.. هناك فيها ما هو جيد وما هو عاطل، وإنْ كانت أو لم تكن طبيعية، فانظر إليها بعين العالم.. ذات يوم، فجأة، لن تراها ثانية، وفي هذا اليوم سيغمرك صمت لم تتعرف عليه من قبل، سيبقى إلى جانبك، سيكون معك كنفسك، إنه يحررك من عبودية الجسد.
والحياة، بمفهوم أوشو، هدية من الله تعالى أو من الوجود والطبيعة، كذلك الولادة والحب والموت هدايا، إذا عرفنا كيف نكون شاكرين لله. فكل شيء يتحول إلى هدية، الآخرون يفتقرون إلى الإحساس بالشكر، ومن الناس مَن يُدين الآخرين دائماً ويتذمرون ويطلبون المزيد والمزيد. بينما النوع الأول فقط، هو الذي يصبح ورعاً وشكوراً. على عكس الثاني الذي لا يستطيع ذلك، لأنهم إتّكاليّون ويظنون أن الله يجب عليه أن يلبي كل طلباتهم، ولذلك، يكفرون أحياناً.. إذا لم تُلبّى طلباتهم. وهؤلاء يشعرون دائماً أنهم مكبوتون، وأن كل ما يحدث باطل ومخادع. إذ لا شيء يلبي طلباتهم ورغباتهم، لا شيء يملأ قلوبهم بالرضى. دائماً تحدث الأمور الحسنة بعيداً عنهم، إنهم يعيشون في بؤس وشقاء لأنهم يحملون دائماً الشكوى والحقد ونكران الجميل، كما لو أنهم مبعدون عن شيء ما.. كيف يستطيعون الشعور بالامتنان؟ وبغير الامتنان: "ليس هناك صلاة وبدون الصلاة ليس هناك دين" هكذا هؤلاء.. ومصيرهم الضلال.
في الحقيقة، الصلاة ضرورية، الصلاة هي الصلة مع الكون... ليست مجرد أدعية وحركات مكررة بل هي شكر لله على ما أعطانا من نِعم الحياة، مهما ما كانت. إنه موقف يتضمن قول "نعم".. ولا يعرف الشك ولا الارتياب أو التشاؤم أو السلبية.
العالَم مليء بالجمال والروعة إلى درجة أنه لا يمكنك إلا أن تبادله الفرح والغناء، إنها ـ أي الصلاة ـ هدية لنا لنكون جديرين بها، فنحن لا نستطيع أن نرد الجميل إلى الله إلا بها. فكل ما نستطيعه هو أن نشكر الله والألوهية، وبالشكر تدوم النعم.. فاجعل الصلاة الحقيقية دربك إلى قلبك وربك... كن شكوراً بكل الطرق الممكنة، ولا تتذمر أبداً، أسقط العقل الساخط. المسألة، فقط قضية قرار، وما إن تقرر أن تسقط التذمر، حتى تبدأ في إسقاط العادة القديمة، وينبغي ـ أيضاً ـ إسقاط حواجز الجسد، فنحن متماهون كثيراً بأجسادنا، نعتقد أننا أجساد، ونحن لسنا كذلك. هذه هي الفكرة الزائفة الأولى التي ينبغي إسقاطها. هذه الفكرة الزائفة تولد أفكاراً زائفة أخرى... إذا كان الواحد منا محدداً بالجسد فإنه سوف يكون خائفاً من الشيخوخة، المرض، الموت، هذا الخوف يخلق من هذا الالتصاق بالجسد. أنت الذي يدرك هذا الجسد، وأنت لستَ الفكر أيضاً.
ويعود أوشو ليقول:
"ابدأ أولاً بالعمل مع الجسد لأنه من السهل الابتداء مع كل ما هو محسوس، ثم تحول نحو الأرق والألطف، انظر إلى الفكر باعتباره منفصلاً عن ذاتك، حتى تصبح واعياً أنك لست الجسد ولا الفكر. ستشعر بالحرية وأنك بلا قيود أو حواجز. لن يكون هناك جدران، سيكون هناك فقط الفراغ المطلق في كل الاتجاهات. عندئذ ينبغي إسقاط الحاجز الأكثر شفافية. وهو المتعلق بالمشاعر".
أي علينا أولاً أن نتحرر من الجسد، ثم من الفكر، ثم من القلب، وحتى نكون متنورين علينا أن نتحرر من القلب أيضاً. عندما نعرف أننا لسنا الجسد ولسنا الفكر ولسنا القلب، سنعرف مباشرة مَن نحن، وما هو الوجود وما هي الحياة بكل معانيها، وسينكشف الستار مباشرة عن كل الأسرار. جميعنا هنا غرباء، هذا العالم ليس بيتنا، بيتنا في مكان آخر، نحن في أرض غريبة... أن نبقى خارج ذواتنا هو أن نبقى بلا منزل. وبرجوعنا إلى المنزل، نعود إلى داخلنا..... فلنكرس جهودنا كلها للعودة إلى الداخل... لا شيء أكثر قيمة من هذا التوجه وهذا الحجّ... لذا علينا المخاطرة والتضحية بكل شيء لأجله وما عداه كل شيء تافه بلا قيمة.
نتعرّف ولا نعرف
هناك فرق بين المعرفة والتعرّف. المعرفة هي معلومات وافية عن زمن مضى، بينما التعرف هو محاولة اكتساب معرفة جديدة، إنه عملية تحول تطوري، لذا، إذا كنا فعلاً راغبين بالتعرف، علينا الاعتراف، أن كل شيء قابل للتعرف والتحول. حتى اللغات التي نكتب بها اليوم أو نحكيها، قطعت مراحل (تعرّف) كثيرة حتى وصلت إلى ما هو عليه اليوم. ولهذا انقرضت لغات، لأنها لم تتحول، فلا شيء في هذا الوجود ثابت، بل كل شيء في تحرك دائم. لذا، لا تقل "معرفة" بل "تعرّف" ولا تقل "الحب" بل "أنا عاشق ومعشوق في آن واحد".
المشكلة أننا تعودنا على ترداد الأشياء الجامدة فما نزال نقول "النهر" مع أنه جريان للمياه، وأنه ليس هو ذاته بين ثانية وأخرى. وكذلك الأشجار، ومع أنها تنمو كل لحظة وتتغير، تتساقط أوراقها وتعود تورق من جديد، إذاً، لا شيء ثابت في الوجود.
أيها الإنسان، كن مع الحياة، متحركاً ومتحولاً، ولا تكتفي بالنظر إلى ما يجري دونما اهتمام. بل بهدف التعرف على التحول الذي يصيب الأشياء ولا تكتفي بما عرفت. بل ثابر على اكتساب المعرفة. هكذا ترى الأشياء واضحة.
مهما عرفنا يبقى هناك الكثير من الأشياء والأمور التي عرفنا وتعرفنا عليها. ففي كل لحظة شيء جديد، عرفتُ شيئاً وغابت عني أشياء... حتى أنا الآن لستُ أنا بعد الانتهاء من كتابة هذه الكلمة. أقول "الكلمة" وليس "الكلمات" فالحياة مستمرة في التحول، ولا تتآلف مع الغموض. والله لا يحلّ إلا في قلوب أولئك القادرين على التحوّل والراغبين في التعرّف والتصرّف.
كيف يتم اكتشاف المعرفة، الحقيقة، الحكمة؟
إن ذلك يتم من خلال الوعي المنتبه، وليس من خلال مراكمة المعلومات، بل من خلال الذهاب إلى داخل عملية التحول. الوعي المنتبه هو تحول داخلي، لقد ولدتَ الآن من جديد.
بصورة اعتيادية، غالباً ما يتواجد المرء في حالة نائمة، وعيه المنتبه في أدنى درجاته، فقط، بنسبة واحد في المئة، أو بنسبة أقل من ذلك ولكن ذلك يكفيك لعملك اليومي، يكفيك لتكسب خبزك ولتوفر ملجأك وليكون لك أولاد وعائلة، يكفيك هذا الوعي الضئيل لتحقيق ذلك، ولكنه لا يكفيك لتحقيق ما هو أكثر من ذلك، تسع وتسعون في المئة من وجودك يبقى ظلاماً دامساً. لكن، كل ذلك الظلام يمكنك تغييره. بإمكان المرء أن يمتلئ بالنور. عندئذ، يتعرف المرء على فن العيش، وعلى النشوة الهائلة للعيش والحياة.
منذ أن وجد الإنسان والعقل عاجز عن معرفة ماهية الحقيقة، إنه يعرف أشياء عنها، لكنه لا يعرفها بذاتها. أن تعرف شيئاً عن الحقيقة أمر مختلف عن معرفتها، قد تكون قادراً على التحدث عن الحب، من دون أن تعرف ما هو، وحتى أن تتعرف عليه، يجب أن تمر بتجربة الحب، يجب أن تكون عاشقاً. جمع المعلومات شيء، والوصول إلى الذات شيء آخر، بمقدروك حفظ ما قاله الفلاسفة وعلماء الدين، وكذلك نظريات وفرضيات العلوم. ولكن ليس بمقدورك الادعاء أنها أقوالك ونظرياتك وفرضياتك، لا أحد ينكر أنها تعينك على تعميق وعيك. وهنا يكمن الخطر، لأنها تجعلك مدعياً أنك تعرف كل شيء.
دائماً عليك معرفة أنك إذا حفظت شيئاً، وغابت عنك أشياء، عليك معرفة الشيء ونقيضه، وعليك الاعتراف أنك جاهل لأمور كثيرة.. لماذا؟! حتى تبقى راغباً في حب الاستطلاع، في اكتساب المعرفة، حتى تبقى باحثاً عن الحقيقة، عن حقيقة المعرفة. وهكذا، تمضي حياتك باحثاً عن الحقيقة، عن حقيقة الوجود، باحثاً عن الوعي الكلي الشامل، بهدف الوصول إلى الحقيقة واختبارها.
الله معنا كل لحظة، إنه الألوهية في قلوبنا النابضة، في رئتينا حين نتنفس لكن المشكلة هي أننا ـ أحياناً ـ لسنا مع الله. نريده أن يكون معنا ولنا، في حين لا نحاول التقرّب منه.
حين نصبح مع الله، نعي أهمية الحياة، نعي أن علينا الإحساس بالشكر والامتنان ونعي أهمية وجودنا.
ليس بمقدورنا الاستيلاء على الحقيقة، بل أن تسعى إليها، أن تفتح قلبك لها، ولن يكون هذا إلا بالتأمل، إلا بالاستغراق في التفكر والتذكر... في كيفية جعل نفسك ممتلئة بالنعمة والبركة، في أن تكون شاعرياً وليس عالماً، في أن تصلي من الأعماق وليس من الشفاه.
صلّي بثقة أن الله يستجيب لدعائك، وأنه سيكون معك إذا كنتَ معه... كن مصباحاً ينير ذاتك، قبل إنارة غيرك، فلا أحد بمقدوره إعطاءك المعرفة، وإن اعتقدت بهذا، فهذا يعني أنك لن تتعرف إلى المعرفة.
لماذا تبحث عن النور خارج ذاتك؟
الله أعطاك كل ما أنت بحاجة إليه، منحك النور الداخلي. وهو دائماً إلى جانبك ومعك ليساعدك على التمييز بين الصح والغلط، يغمرك بغبطته ورضاه. لا تكن مثل أولئك المستلقين على قارعة الطريق بانتظار من يوصلهم معه، فهذا مضيعة للوقت وهدر للطاقة الكامنة فيك.
أنا لن أقول لك ما عليك فعله، ولا كيف يجب أن تفعل هذا أو ذاك.. بل أطلب إليك أن تكون أنت أنت لا أحد غيرك.
ثم أخيراً...
لماذا لا تجعل حياتك حديقة أزهار، متعددة الألوان والأنواع، وكل زهرة تسعى أن تعطي أكثر من الأخرى، إنه التنافس على العطاء. فلماذا لا نكون مثلها، نتنافس من أجل بلوغ التسامي.
كثيرون من البشر يعانون انقسامات وصراعات داخلية، يحتارون أي طريق يسلكون، لأنهم ليسوا كتلك الأزهار التي توحدت في سبيل العطاء. لن يشعر الإنسان أن حياته ليست مصادفة، بل هي مجموعات تخلّت عن أنانياتها ونذرت نفسها لفعل الخير.
لا نعمة ولا محبة، ولا سعادة، إلا بتوحد الذات الإنسانية مع ذاتها مع الواحد الأحد. إلا بتوحيدٍ داخلي للوصول إلى نعمة الله في كل حبة رمل وقطرة ماء....
المستقبل
مختارات من أقوال أوشو الحكيمة:
"إن كل ما أقوله ليس هو الشيء الذي أريد أن أقوله لكم، كل ما أقوله لا يفعل شيئاً مع الحقيقة لأن الحقيقة لا يمكن أن تُقال، كل ما أقوله ليس إلا طَرْقاً على الباب، وعندما تُصبح واعياً: سوف ترى الحقيقة.
ماذا أريد........ أريد أن أرى القوة والسلام في كمالهما..... أريد جمعاً وانسجاماً بين الدين والعلم... وبهذا سيولد فردٌ مثالي لثقافةٍ مثالية.
إن الفرد ليس جسداً أو روحاً، إنه توحيدٌ للاثنين معاً، لذلك أي شيءٍ يعتمد على واحدٍ منهما بمفرده يكون ناقصاً...
لستُ هنا لأجعلك تفهمني! أنا هنا لأساعدك على أن تفهم نفسك. عليك أن تراقب أعمالك، علاقاتك، أحوالك ومزاجك عن قرب. وأن تراقب حالتك عندما تكون وحيداً، وعندما تكون مع الناس، كيف تتصرف، كيف تنفعل... هل ردود أفعالك شرقية أم غربية.. نموذج متحجر من الأفكار، أم أنك عفوي تلقائي، مسؤول..؟ راقب كل هذه الأشياء... استمر بمراقبة فكرك وقلبك. هذا ما يجب أن تفهمه وهذا هو الكتاب الذي يجب أن تفتحه أنت كتاب غير مفتوح بعد.
الحياة كريمة جداً؛ كل ما عليك أن تكون مُتلقّياً، لكن لا تنتظر أية مكافأة. أريدك أن تكون بريئاً تماماً من كل الفساد والتلوث الفكري، ليكن عقلك صامتاً ومحباً.... منتظراً للمزيد أن يأتي. الحياة واسعة جداً، ومهما اكتشفنا منها... لن نستطيع أن نتعبها أبداً......! فهي لا متناهية.... والسّر يكمُن في العمق...... فوق الزمان وفوق المكان.
أنا كلٌّ مع كلّ الأشياء... في الجمال، في القباحة، في كل الأشياء أنا موجود، ليس فقط في الفضيلة بل في الرذيلة أيضاً أنا شريك، وليست الجنة فقط مسكني بل الجحيم أيضاً... بوذا، المسيح، لاوتسو..... من السهولة بمكان أن أكون تابعاً لهم! لكن هتلر وتيمورلنك وجنكيز خان أيضاً في داخلي! لا! لا أنصاف! أنا الجنس البشري بكامله وكل ما هو إنساني يسكن فيّ: الورود كما الأشواك – الظلام كما الضياء، وإذا كان الرحيق لي فلمن السّم؟ السم والرحيق كلاهما لي....... كل مَن اختبر هذه الأشياء جميعها بالنسبة لي هو إنسان متديّن، فعذابات جميع هذه الخبرات وحدها تستطيع أن تحدث انقلاباً جذرياً في هذا العالم المجنون.
كلما ذهب المرء بعيداً داخل نفسه كلما زاد نضجه...
وعندما يصل إلى مركز وجوده بالتحديد، سيصبح ناضجاً تماماً. ولكن في تلك اللحظة، سيختفي الشخص، وسيبقى وجوده!
تختفي النفْس ويبقى الصمت، تختفي المعرفة وتبقى البراءة.
أنا أيضاً فلاح وقد زرعتُ بعض البذور. لقد تبرعمَتْ هذه البذور وحملَت أزهاراً، الآن.. حياتي بكاملها مليئة بأريج هذه الأزهار وبسبب هذا الأريج أعيشُ في عالم مختلف. لقد أعطاني ولادة جديدة... وأنا منذ الآن لا أبدو كما ترى العيون العادية.
لقد فَتح الغير مرئي والغير معروف أبوابه المغلقة، وأنا أرى عالماً مختلفاً لا يُمكن أن يُرى بالعين، وأنا الآن أستمع لموسيقى لا تستطيع الآذان سماعها، أذان بلال... كل ما وجدته وكل ما عرفته متلهّف بتوق... يشبه شلالات الجبال وينابيعها التي تتدفق مندفعة إلى المحيط.
تذكّر... عندما تمتلئ الغيوم ماءاً فعليها أن تُمطر. وعندما تمتلئ الأزهار عطراً عليها أن تهبه إلى الرياح لتنشره. وعندما يُضيء المصباح فمن المفروض أن يشعّ الضوء منه... لقد حدث شيء مشابه، وتقوم الرياح بحمل بعض بذور الثورة والنور مني... ليس لدي أي فكرة في أي حقل ستهبط ومن سيعتني بها... كل ما أعرفه أنه مِن مثل هذه البذور حصلتُ على أزهار الحياة والحياة الأبدية، واقتربتُ من الله.
وأينما هبطَتْ في أي حقل، ستتحول تربة ذلك الحقل إلى أزهار الخلود. الخلود مخفيّ في الموت، والحياة كامنة في الموت- تماماً كالزهرة التي تخرج من التراب.
لكن الشيء الكامن في التراب لا يمكن أبداً أن يظهر في غياب البذور... البذور تجعل المخفيّ ظاهراً، وتُعبّر عن المعاني الدفينة.
مهما كان لديّ، ومهما كنتُ في حياتي، أريد أن أهب نفسي كبذور من الوعي المقدّس.
إن الذي نحصل عليه في المعرفة والتعلّم، يُقدّمه الحب بكرمٍ للجميع... بمعرفة المرء لنفْسه يعرفُ الله، وبالمحبة يصبح الإنسان إلهاً بحدّ ذاته.
عندما تغيب منك الأفكار ويبقى ذهنك صافياً، عندما لا يكون عندك خيار وتكون لأمر الله مسلّماً، عندما لا يكون هناك كلمات ويكون قلبك فاعلاً عندها ستدخل في الدين الحقيقي.... لستُ من الذين يخافون الله بل أنا من عشّاقهِ.. فالخوف لن يأخذك إليه بل سيؤدي بك إلى فراقهِ...
ودون أن أشعر، فأنا لست بمؤمنٍ أو مُعتقِدٍ أيضاً!!! فالاعتقاد أعمى! وكيف للعمى أن يأخذك إلى الحقيقة المطلقة؟؟؟ مع احترامي لكل الأديان، لستُ بتابع إلى أي دين‼
لأن الدّين لا يُمكن أن يقسَّم ويُوضَع في مصنّفات!! إنه دين واحد أبدي لا يتجزّأ وهو التديّن في القلب!! وكل الأديان فيها روح واحدة وتوصلك إلى جوهرة واحدة.
بالأمس عندما قلتُ ذلك، سألني أحدهم: إذن أنت مُلحد؟! لستُ بمُلحدٍ ولا بمُؤمن!!
إنها مجرّد اختلافات سطحية وفكرية فقط، لا علاقة لها بالكون أبداً. فالوجود غير مقسوم مثل عقلنا المليء بالتناقضات...... ومن الفكر فقط تأتي جميع تلك الاختلافات.
كلٌّ من الإيمان والإلحاد مصدره العقل ولا يصل إلى المستوى الروحي! الروح تسمو فوق كل شيء إيجابي وسلبي.... وتكمُن وراءهما في العمق.
بمعنى آخر: إن الإيجابي والسلبي شيء واحد في ذلك المستوى، وليس هناك خط يفصل بينهما.
لا يوجد أي مفهوم فكري يعمل هناك... في الواقع على المؤمن أن يُسقِط إيمانه وكذلك على المُلحد أن يُسقط إلحاده... ومن المحتمل عندها أن يدخلوا معاً إلى عالم الحقيقة والحق.... ويهتدوا إلى الصراط المستقيم.
كِلا الفكرتين من استحواذات العقل عليك.... و الاستحواذ عبء مفروض قسرياً. ليس علينا أن نقرّر ماهيّة الحقيقة، لكن علينا أن نتذكرها كاللحظة التي ينفتح فيها المرء على نفسه.... وعندها من يعرف نفسه يعرف ربه.
من يستطيع رمي جميع قراراته الفكرية، والمفاهيم المنطقية وكل الافتراضات والهواجس.... يصل إلى براءة طفولية يفتح فيها نفسَه على الحقيقة كما تفتح الزهور بتلاتها في النور وفي هذا التفتّح تصبح الرؤية الحقيقية ممكنة ولن يرى إلا نوراً في نور وهكذا فإنني أُسمّي الرجلَ بالمتديّن الحقّ إذا كان ليس مؤمناً ولا ملحداً. التديّن هو قفزةٌ كبيرة من فكرة التعدّدية.... إلى الوحدة والتوحيد. إلى رؤية الله في كل الأشياء والمخلوقات.
عندما تغيب الأفكار ويبقى ذهنك صافياً، عندما لا يكون عندك خيار وتكون لأمر الله مسلّماً، عندما لا يكون هناك كلمات ويكون قلبك فاعلاً عندها ستدخل في الدين الحقيقي.
الخوف لن يأخذك إلى الله.... بل الحب سيجلبه إليك...
يـا أخـي الشجـاع... هل تعرف بأن كل الحكمة والشجاعة تكمن في حبة الرمل التي لا تكاد تراها على شاطئ البحر...؟ نعم، إنها الشجاعة الحقيقية النابعة من الثقة بالوجود والموجِد.
عندما تتأمل رمال الشاطئ المتناثرة في موج البحر... كيف أنها تروح جيئةً وذهاباً مع تلك الأمواج... بدون مقاومة أو خوف... وإنما بكل سلامٍ وتسليم... وكأن البحر يغازل حبة الرمل ويداعبها مع كل موجة... إنه التناغم المطلق في الطبيعة... وفي كل ذرة وكل كون... هنا تجد الشجاعة الحقيقية في البحث عن الحياة ذاتها... لا بالعودة إلى الماضي الميت أو الغوص في وهم المستقبل... إنها الآن وفقط الآن... في هذه اللحظة الحاضرة التي تبدد الزمان والمكان... إلى روح الإنسان... بأن تقول نعم للوجود الذي يحضنك... كما يقولها الطفل لأمهِ... كما تقولها الشجرة للأرض والرياح والشمس... كما تقولها السمكة للمحيط... وكل خلية في جسمك تقولها أيضاً... وأنت كذلك... من أعماق قلبك...
كالعاشق الذي يفتح قلبه وروحه للمعشوق... لتزول كل الحواجز والحدود... إلى اللامحدود في هذا الوجود وقبله وبعده...
جذور الإنسان ممتدة عميقاً في الوجود كشجرةٍ مباركة... فلماذا تقاوم الحياة؟ لمن هذه الـ "لا"؟ أهي لأمك الأرض؟ أم للسماء الزرقاء التي تحلق روحك فيها؟ أو للشمس التي تتغسّل بنورها..؟
إن من يقاوم الحياة يموت شيئاً فشيئاً... هذه الحياة التي تتدفق فيك مع كل نَفَس... وتنعش قلبك مع كل لحظة وكل آن... فكُن ناي الحياة... يعزف لحناً إلهياً أبدياً... يا صاحب المكان والزمان...
الإنسان الشجاع ينظر حوله، ويشعر بقلبه... ليرى بروحه أنه جزء من هذا الوجود الواحد... من هذا الكل اللامتناهي في هذه اللحظة وكل لحظة... فيصمت فكره وتتطمئن نفسه في سكينة الساكن في كل جسد وكل أحد يـا واحد يـا أحد... ليقولها بكل محبة وثقة... نعم للحيـاة.
إنه مستعد ليغامر بكل شيء عرفه طوال عمره لأجل هذه الـ "نَعم"... من أجل تلك اللحظات التي رشف بها قليلاً من نبع الحياة الأبدية... لكي يستسلم لماء النهر العذب الصافي الذي يسير رقراقاً متلألئاً في ضوء القمر والشمس إلى المحيـط الواسع اللامحدود.
الشجاعة الحقيقية هي أن تكون حاضراً لتغامر بنفسك أيضاً في سبيل نفحة من الحب الصافي... وتستمر المغامرة... حتى بتلك النفحات إلى أن تفنى في المحبة... لأنك لن تعرف المحبة الحقيقية إلا عندما تذوب تماماً وتتوحد مع المصدر... مع الأكوان والمكوِّن... هذا هو الفناء في البقاء... فلا تقف متفرِّجاً على الشاطئ مع كل تلك الكتب والخرائط والاعتقادات المعقَّدة... ارمها بعيداً واقفز في أحضان المحيـط... أحضان الحيـاة... إن الإنسان يبحث عن الله أو الحياة ضمن حدود معينة... ونسي أنه يبحث عن اللامحدود... فكيف تضع تصوراً مسبقاً أو حداً ما لبحثك! إنك لن تجده بذلك أبداً... بل ستبقى مكانك بتعاستك وبؤسك وقيودك التي تظنها حياةً... وصلاتك التي تظنها صلةً وما أنت بمكفول ولا موصول... بل في بحور الشيطان تسبح وتجول.
هل تظن بأنك ستشتري الحياة بالمال الذي تنفقه على من تسميهم فقراء ومساكين..!؟ وهل تحسب نفسك مغامراً من الدرجة الأولى لمجرد ذهابك إلى الجوامع والكنائس..!؟ إنك تكون كذلك فعلاً عندما تنذر نفسك في سبيل الحياة... بأن تذبح أحلامك وأمنياتك وطمعك في مذبح الكنيسة أو أضحى الأعياد... ثمن الحياة باهظٌ جداً... وهو أبعد من كل معاييرك وحدودك وأفكارك التي قيَّدت نفسك بها. فإذا كنت تعتقد بأن صلاتك لدقيقتين قبل أن تنام في ليل أحلامك المكبوتة صلاةً، أو أن تكرارك لبعض الكلمات والأسماء كالببغاء من دون حياة ذِكراً... فأنت تضيع فرصتك الوحيدة بأن تتعرف على حقيقتك... ومن عرف نفسه عرف ربَّه... وإذا لم تتحلّى بالشجاعة والإرادة الكاملة لخوض المغامرة ستبقى ذاك المخادع الذي يخدع نفسه والآخرين دون أن يدرك ما يفعله... وكل ما يجنيه في النهاية وَهم بوَهم... وكبرياء وتكبُّر... وأنانية توحي إليك بسعادة زائفة مؤقتة... وكل ذلك يسكن رأسك الذي ضاق بالأفكار والأدوار... حتى لم يبقى لك دور ولا دار في الحياة الحاضرة الآخرة... في هذا الآن المقدَّس الأبدي.
يـا أخـي.. الدين الحقيقي أو الصلاة الحقيقية تكون بالحضور والوَصل... هذه الحَضرة والوعي الصافي الذي يستمر كل لحظة وكل ثانية.
ليست مسألة فعل أو القيام بشيء، بل هي مسألة تسليم وحضور في الآن... إن الأفكار والاعتقاد والانعقاد بالعقد يقطع تدفق الحياة... تلك الحياة التي تُزهر في قلبك وتراها في عيون الآخرين فتشاركهم بها بكل حرية ومحبة... وهذا هو التدين الحقيقي والمحبة الحقيقية... وفي النهاية يقفز الشجعان في محيـط الحياة... بينما يبقى الجبناء على رصيف الانتظار والدمار حيث لا نمو ولا عمار... فمن أي نوع أنت؟؟
لتعرف الوجود يجب أن تكون وجودياً.....
أنت لستَ كذلك، بل تعيش في الأفكار، تعيش في الماضي.. في المستقبل، لكنك لا تعيش هنا والآن... ولذلك يبرز السؤال: تظنّ أنك تعيش، لكنك لا تعيش... تظن أنك تُحب، لكنك لا تُحب... أنت فقط تفكر في الحب، تفكر في الحياة، تفكر في الوجود، وهذا التفكير هو السؤال، هذا التفكير هو الحاجز! ارمِ كل الأفكار وانظر، لن تجد سؤالاً واحداً، ما يوجد هو الجواب فقط!
ومن أجل ذلك أُصرّ دائماً أن البحث الحقيقي ليس عن الجواب، البحث ليس لكي تجد جواباً على سؤالك، بل يجب أن تفكر فقط كيف سترمي الأسئلة، كيف سترى الوجود والحياة بدون تساؤلات الفكر. هذا هو معنى الثقة بالكون ومُبدعه، هذا هو أعمق معنى للثقة والتسليم... أن تنظر للوجود بذهنٍ خالٍ من الأسئلة. أنت تنظر ببساطة، ليس لديك أي فكرة كيف تنظر إليه، لا تفرض عليه شكلاً معيناً، ليس لديك أي حكم مُسبق...
تنظر ببساطة وبعيون مجرّدة، مكشوفة لا تغطيها أي أفكار، أي نظريات، أي معتقدات، تنظر للوجود بعيني طفلٍ صغير، وعندها فجأة لا يوجد إلا الجواب.
في الوجود ليس هناك أسئلة. الأسئلة تأتي منك أنت، ولسوف تأتي وتأتي... ويمكنك أن تُكدّس الكثير من الأجوبة كما يحلو لك.. لكن تلك الأجوبة لن تساعدك. عليك أن تصل إلى الجواب، ولتصل إليه عليك أن ترمي كل الأسئلة.
عندما يخلو الذهن من الأسئلة ستصبح الرؤية واضحة، وذهنك صافٍ، وأبواب البصيرة ستصبح نظيفة ومفتوحة، وفجأة... يصبح كل شيء شفافاً. تستطيع أن تغوص في العمق حيثما نظرتَ، فنظرتك تخترق إلى المركز، إلى الجوهر... وهناك فجأة ستجد نفسك. ستجد نفسك في كل مكان. تجد نفسك في صخرة إذا نظرت إلى العمق، العمق الكافي، عندها المُشاهد يصبح المَشهود، والناظر يصبح المنظور، والعالِم يصبح المعلوم.
إذا نظرتَ بعمق في صخرة، في شجرة، في رجل وفي امرأة، وتابعت النظر بعمق، تلك النظرة هي حلقة، تبدأ منك، وتمر عبر الآخرين وتعود إليك ثانية. كل شيء شفاف جداً، لا شيء يمنعه. الشعاع يذهب، يشكل حلقة، ويعود ليقع عليك. لذلك أحد أعظم الكلمات في كتب الأناشيد هي: "الحلقة كاملة".
أي أن المتعبّد مع الله واحد، الطالب مع المطلوب واحد، السائل هو نفسه يصبح الجواب.
في الوجود لا يوجد أسئلة، لقد عشتُ فيه زمناً طويلاً حتى الآن ولم أصادف سؤالاً واحداً... ولا حتى تساؤل.
الحياة لها جمالها الخاص، لا شكوك تبرز في الذهن، ولا ظنون تحيط بك، لا يوجد أي سؤال داخل كيانك فأنت لست مجزّأ، بل كلّي... البداية هي النهاية...
والجمال كُلُّه في البداية، لأنه عندما تبدأ بالتحرك، تكون النهاية "السقوط في المحيط" قد تقرّرت. البداية كانت بين يديك، لقد كانت حرّيتك، لذلك فالجمال يكمُن فيها. السقوط في المحيط سيكون ذا نشوةٍ عظيمة لكنه ليس في يدك، ما كان بين يديك هو البداية، وأنت استجمعتَ الشجاعة، وقفزتَ من حالة الركود والموت إلى كائنٍ حيٍّ، يعيش، يغني ويرقص. فمن يهتم متى سيأتي المحيط؟ البداية تكفي وأكثر من كافية – لأن السقوط في المحيط أصبح تلقائي الحدوث. لقد بدأت الرحلة فابتهج بها، لا تفكّر بالغد..... اليوم بحدّ ذاته يكفي، إنه هبة ونعمة وبَرَكة.
أنت المحيط – فما الذي ستجنيه من السقوط في المحيط؟
الأمر ببساطة هو أن نُدرك أن الماء في قطرة الندى أو في أكبر محيط، من نفس الطبيعة:
كل قطرة ندى تحتوي محيطاتٍ بداخلها، وكل المحيطات تكوّنت من قطرات الندى. المُرِيد الحقيقي لا ينشغل بالهدف. المُرِيد الحقيقي يهتم بالبداية الصحيحة، وأنت مُباركٌ لأن البداية الصحيحة قد حدثت. متى يصل القارب إلى الشاطئ الأخر..... لا وجود للشاطئ الآخر! وليس هناك إلا شاطئٌ واحد... فالمسألة لا تتعلق بالوصول إلى مكان ما، بقدر ما هي مسألة صحوةٍ، الآن وهنا.... يجب على الصحوة أن تكون دائماًَ: الآن وهنا.
أما القارب الذي أتحدث عنه فهو في الحقيقة ليس بقارب، إنني أتحدث عن تحوّلك إلى إنسان واعٍ.. أي أن تصبح أنت القارب.....!! عندما ننام نكون في المكان الذي نريده، أو الذي قُدّر لنا أن نكون فيه..
والبشر يحلمون بدخول الجنة، إلا أنهم يغطّون في نوم عميق، وهذا ما يمنعهم من دخولها، ومع الوقت تصبح تلك الأحلام هي الحقيقة بالنسبة لهم، أما الحقيقة الصافية تتلاشى وتتحول إلى كذبة....
لستَ بحاجة إلى الذهاب إلى أي مكان... فالتأمل ليس رحلة في الفضاء ولا رحلة في الزمن بل هو وعي لحظيّ............ إذا استطعتَ أن تكون صامتاً الآن.. فهذا هو الشاطئ الآخر... إذا استطعتَ أن تُلزم عقلك بالتوقّف وعدم العمل.. فهذا هو الشاطئ الآخر إلا أن العقل ذكي جداً ومخادع كبير فهو يحرّف كل التعاليم العظيمة، ويقفز فوق الكلمات ويمسك بها ثم يبدأ بإعطاء معانٍ جديدة لها، ليست في الواقع معانيها الحقيقية...
نعم... لقد تحدّثتُ مرة عن الشاطئ الآخر، وربما قام عقلك بالتقاط الكلمات.. الشاطئ الآخر.... إلا أنك أسأتَ الفهم.... كن واعياًَ، وهذا الشاطئ أي الوعي سيصبح الشاطئ الآخر وهذه اللحظة ستصبح الحياة الأبدية.
وهذا المكان سيصبح الجنّة.... تذكّر... الوعي ليس بحاجة إلى وقت، ليس بحاجة حتى إلى جزء من الثانية لكي يحدث... إنه يتحقق برغبة جامحة تظهر بداخلك... نوعيّة شديدة من الرغبة التي تحولك إلى نار مُحرقة لتحترق معها... ومن خلال تلك النار فإن القديم فيك سيذهب والجديد سيصل..... على الرغم من أن القديم لم يكن موجوداًَ أصلاًَ في داخلك، بل أنت فقط اعتقدتَ بوجوده!!!... والجديد كان في داخلك منذ الأزل.... إلا أنك نسيتَ ذلك..... لا وجود لحقيقتان في هذا العالم... إنها حقيقة واحدة موحَّدة.... فلا تفرّ من نفسك، لا تذهب إلى كهوف الهملايا ولا إلى أي مكان آخر، لأنه عليك أن تصبح واعياًَ في مكانك بالضبط..... وفي الحقيقة، من الأسهل أن تصبح واعياً هنا أكثر من ذهابك إلى الهملايا!
لأنك إذا كنتَ تعاني في نومك... ولاوعيك، من كابوس ما... فالصحوة ستكون أسهل، أما إذا كنتَ تحلم بأحلام جميلة فالصحوة ستكون أصعب بكثير.... كالذي يحلم بأنه مع مَن يحبّ، فيكون إيقاظه صعباً، حتى أنك قد تتحول في نظره إلى عدو.......!!! أما إذا كنتَ مطارداً من قِبل نمر مخيف يريد افتراسك، وكلما اقتربَ منك شعرتَ به خلفك... عندها ستكون في منتهى التسامح والشكر لمَن يقوم بإيقاظك!
في كهوف الهملايا ستحلم بأحلام جميلة... وهذا ما يفعله النُسّاك في الصوامع... يحلمون بالله، والملائكة والجنة، والسلام الأبدي... بينما يتعذب ويعاني البشر في العالم من الكوابيس المزعجة.... كوابيس المال والبورصات... كوابيس قوة السياسة والأعمال... لذا من الأسهل أن تصبح واعياًَ هنا في مثل هذا المحيط من الناس... لأنك إنْ لم تستطع أن تصبح واعياًَ هنا، فلن تصبح واعياًَ في أيّ مكان آخر. لكن تذكّر..... ودعني أكررها: لا وجود إلا لحقيقة واحدة. لكن بإمكاننا رؤية تلك الحقيقة بوجهين مختلفين:
الوجه الأول: بعينين نائمتين حالمتين، بعينين مليئتين بالغبار...... وعندئذٍِ كل ما ستراه سيكون مشوهاًَ.
والوجه الثاني: الحقيقة نفسها يمكننا رؤيتها بعيون يقظة، وبصيرة مفتوحة.... وعندئذٍِ مهما رأيت سيكون حقيقة... والحقيقة تُحرّر....
اللطيف...
من أسماء الله الحسنى... ظاهرياً قد نرى القسوة في الحياة، لكننا لا نرى اللطف بأعيننا الحسية. عندما يبحث بعض الناس عن الله يقولون: نريد أن نراه... قد تشعر باللطف في قلبك، ولكنك لا تستطيع أن تراه. بعينيك ترى القسوة والقوة، لكن، لترى اللطف، عليك أن تغلقهما. الله فيك، في داخلك، ولترى الله عليك أن تكون خارجه.. لكنك فيه وداخله..! لن تراه وتُدركه حتى تتحد معه.. عندما تصبح أنت الله والله أنت... "وما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها..."
لكي تصل إلى حقيقة الأشياء، أول ما يخطر ببالك: المعرفة.. أن تعرف عنها، وعن حقيقتها... أن تعرف عنها مادياً.. بالعلم والمعلومات.... فالزهرة مثلاً... لو نظرتَ إليها بعين العلم المادي.. حلّلتَ كيميائيتها، وعرفتَ مكوّناتها... اسأل نفسك.. هل عرفتها بعد؟ ألم يَفُتك شيء ما لأنك لم ترى جمالها؟؟؟ لنسأل العالِم.. أين يكمُن الجمال في الزهرة؟ ليس فيها جمال.. أنتم تتخيّلون ذلك.. هذا من خيالكم. لقد فتّتها وحللتها قطعة قطعة، وهاكم ما وجدتُ: هذه الجزيئات هي التي تشكّل الزهرة، الذرّات، فيها دقائق وشحنات.. ولكن لا جمال فيها مطلقاً...من منّا لا يرى الزهرة جميلة؟ حتى عالِمنا العظيم، في لحظة شاعرية، سيهدي زوجته زهرة! لن يهديها مواداً كيميائية مرصوفة بشكل زهرة! سيهديها جمالاً كامناً في الزهرة. ولكن عندما يأخذ دور العالم يبدأ بالإنكار.... لأن الجمال لا يُرى بالعين المجردة.. ولا يساعدك المجهر على تقصّيه.. بل قلبك العاشق يا إنسان!
الشاعر يجلس قرب الزهرة، يغلق عينيه، ويراها في داخله، ثم يصبح هو الزهرة ذاتها... وهكذا يعرف ما هي الزهرة.. هذا هو الحب والعشق.... عندما ترى امرأة، تراها من الخارج، ترى الطول والعرض، قد تسألها عن بلدها واسمها.. ولكنك لم تعرفها بعد..... أما عندما تقع في حب هذه المرأة، ستعرفها... ستعرف روحها، جمالها.. عندما تحبها، لم يبق أي شيء اسمه "أنت"، أو "هي".. بل وجودكما المشترك...
الله هو اللطيف.. فلا تبحث عنه بفظاظة! بل حاول بطرق جديدة.. بطرق غير مباشرة لكي ترى الله كجمالٍ وحب مقدّس... لا تكُن مفكّراً وشكّاكاً.. بل كن شاعراً وحساساً.. وبدلاً من تشريح الأشياء، اتّحد معها لكي تفهمها... عندها سترى الله.. لن تراه بإرادتك، ولن تراه كشخص ماثلٍ أمامك.. بل ستُدرك أنه أنت.. وأنت هو.... وروحك جزء من نوره الطاهر.... لن تراه محيطاً بك فحسب، بل في قلبك وكل كيانك.. وأنت تحيط به وهو يحيط بك... فوق المكان وفوق الزمان... وفوق إدراكنا المادي الضيق.... وستصل إلى قول الحلاج: "أنا الحقّ"............
هذه الأنا الكونية التي عبّرَت عن موت الأنا الصغرى واتحادها مع الخالق.
ذو الجلال والإكرام...
كل ما هو جميل في هذا الوجود هو الله.. كل ما فيه بهاءٌ وعظمةٌ هو الله... أينما رأيتَ الجمال، فهو مقدّس.. أينما رأيتَه، انحني واسجد تقديساً له.. فهذا من الله... و"الله جميلٌ ويحبّ الجمال..." الجمال ليس حِكراً على شيء دون آخر.. قد تراه في وجه إنسان، في زهرة، في نجمة... أينما وجدته، وأحسستَ بروعته، بالعظمة الكامنة فيه... قِف قليلاً.... خُذ من وقتك لتتأمّل عليه.. وسيُفاجئك...
كلما ازددتَ إدراكاً للجمال، ستزداد قُرباً من الله.... وسترى البهاء في كل مكان.. سترى عظمة الخالق في كل شيء... وفي الحقيقة هذه العظمة موجودة في كل شيء ومكان، حتى في الصخر الجامد تكمن العظمة.. وهي تنتظرك لكي تكتشفها... عيناك اللتان تشعّان بالحب ستريا الحجر جميلاً.. وستكتشف جماله الباطني.... عندما تبحث عن الجلال والعظمة في الأشياء، ستراها في كل مكان، وسيختفي القبح من حياتك تدريجياً....
في الحقيقة، ليس هناك أي شيء بشع.. لأن الله، الجمال الصافي، هو الذي خلق كل شيء.. خلقه على صورته، على جماله... أما القبح فهو فهمنا الخاطئ.. القبح هو سوء فهمنا للأشياء ونظرتنا السطحية إليها.
عندما تبحث عن (ذي الجلال) ستراه في كل مكان، ستراه في البرق، وستسمعه مع الرعد، ستحس به يغسلك بالمطر.... تسمعه في الصمت والصوت... وسترى الأمور على حقيقتها لأول مرة:
لا إله إلا الله............. المعبد والمسجد في قلبك.. وأنت في هذا الكون... في المعبد الأكبر... تسجد في كل لحظة لذي الجلال والإكرام....
منقول