اللغة العربية والتقدم
يكثر الحديث عن اللغة العربية. وغالباً ما تتنادى الأصوات والأقلام محذرة من إهمال اللغة العربية، أو إضعاف دورها في الحياة العلمية والعملية. وتأتي كثير من المؤتمرات والندوات لدراسة إمكانات هذه اللغة والسبل التي تدفع بها قدماً نحو تبوؤ المركز اللائق بها، كما تبحث بعضها في المسببات التي تراجعت باللغة العربية لمصاف اللغات الأقل استخداماً في حقل العلوم والتدريس الجامعي خصوصاً في حقول العلوم الطبيعية الأساسية والتطبيقية.
وعلى الرغم من السنوات الطوال التي برز فيها هذا الوعي بأهمية استخدام اللغة العربية في الحياة العلمية والعملية عند العرب، ووجود نماذج لبلدان عربية اتسع فيها المد القومي حيناً من الزمن فحظيت اللغة العربية - العامل المشترك الأعظم بين العرب - بأهمية دفعت إلى استخدامها في حقول التعليم العالي - في الطب والهندسة على سبيل المثال - إلا أن هذا التوجه أخذ يضعف شيئاً فشيئاً وبدأ يحدث ما يشبه الردة نحو العناية باستخدام اللغات الأجنبية في التعليم العالي وتقديمها على العربية. وهذا أمر ملموس محسوس في التحولات التي نلمس أثرها في منطقتنا العربية خصوصاً مع ضعف المد القومي وتنامي تيار العولمة التي لم يع البعض من متطلباته سوى أن يجيد الرطانة باللغة الغالبة.
الخاصية العظمى للغة العربية والتي تميزها عن سائر اللغات أنها لغة القرآن الكريم - والذي تعهد الله بحفظه - كما أنها لغة قومية تربط أكثر من 250 مليون عربي يمتد وجودهم من الخليج إلى المحيط تجمعهم كل عناصر التوحد ومقوماته، والتحدي الذي يطلب من لغة هذه خصيصتها، أن تكون لغة مواكبة للتطور العلمي والتقني والحضاري.
إلا أن ما يحدث الآن لا يوحي بأن هذه الأمة أدركت ماذا يعني أن تعتني بلغتها استخداماً ونشراً وتعلماً وتعليماً، ماذا يعني أن تجعل لغتها فاعلة على المستوى الحضاري، ماذا يعني أن تعتز بمقوم حضاري لم يمنحه الله لشعب كما منحه للعرب.
اللغة العربية تستمد شرفها من شرف الرسالة التي بعث بها النبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. والعرب المسلمون يملكون أعظم مقوم حضاري يمكن أن يباهوا به الأمم الأخرى.
والرزية كل الرزية في التراجع المذهل لاستخدام هذه اللغة، واعتماد اللغات الأجنبية بديلاً حياً ليس في التعليم العالي فحسب، بل في مناحي الحياة المختلفة.
والغريب كل الغرابة أن أمم الأرض المختلفة انحازت إلى لغاتها الوطنية تعلم وتتعلم وتعمل بها إلا أمة العرب التي تتوزعها اللغات الأجنبية في عقر دارها، ويلوي بعض بنيها ألسنتهم بمفرداتها كلما عَنَّ لهم أن يخاطبوا بعضهم وكأنهم خلوا من كل ذوق أو حس عربي. وكأنهم يستعيضون باللغة الغالبة ليدفعوا عنهم شبهة الأمة المغلوبة.
العلاقة بين التحصيل العلمي والتعليم باللغة الأم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن تلك العلاقة طردية متنامية ولا حاجة في هذا الحيز الضيق إلى مزيد من الاستشهادات.
والعلاقة بين الإبداع الفردي والجماعي واللغة الأم مسألة محسومة منذ أمد بعيد لصالح الانحياز للغة الوطنية، ولم يكن انتشار العلم والتعليم بلغات غير اللغات الأم في أي مجتمع مؤشراً على أي نوع من التقدم كل التقدم المتسارع الذي نشهده في دول العالم - لا الغرب وحده بل وفي الشرق أيضاً - ومنها دول كانت في طور النمو وحققت قفزات هائلة على صعيد التنمية والتصنيع والتحديث، إنما تم بانصهار وتمازج لغة العلم والتقنيات المرتبطة بها باللغة الوطنية مما شكل بنية لغوية استنبتت مفردات العلم ومصطلحاته من لغة الوطن، هذا الامتزاج الجميل شكل كتلة فاعلة لم تدع مجالاً للانفصام بين العقل واللسان. بل دفعت إلى أدوار من الإبداع الذي نما في حضن اللغة لا منفصلاً عنها. الذين يحلمون بتأسيس بنية صناعية تقنية وطنية متطورة ومتجذرة في البيئة المحلية بعيدة عن لغة العمال وعن لسان (التشغيلة) - أبناء الوطن - هم كمن يطلب المستحيل. إذ كيف يمكن أن تجيش المزيد من الفنيين والعمال والصناعيين في بيئة عمل أدواتها ليست من مفرداتهم اليومية، بل ويجدون بينهم وبينها حاجزاً مؤلماً يذكرهم بعجزهم وضعفهم أمام مارد الآلة ومصطلحاتها التقنية.
الذين يبحثون عن مقومات التقدم والتنمية يضيعون وقتاً طويلاً عندما يشرعون في جعل اللغة الأجنبية لغة أساسية من مقومات سوق العمل وحاجات التنمية، ولو أنهم بذلوا بعض ذلك الجهد في توفير الحد الأدنى من التعريب الضروري لمقومات العمل لحصلوا على نتائج مذهلة ولكسروا حاجزاً نفسياً كثيراً ما كان عقبة كؤوداً أمام أي محاولة لاختراق سوق العمل الذي تستأثر به العمالة المستوردة.
المصانع الكبرى التي عليها أن تؤسس لبنية تقنية صناعية إنتاجية تستطيع بجهد يسير أن تؤسس لوحدة صغيرة لتعريب أدواتها، ونشر تلك المفردات المعربة بين عمالها ومشغلي أجهزتها، وعندما يتعامل أولئك بتلك المفردات ومع اكتشافهم لسر تجويد العمل ونظام الإنتاج سيجعل لغة العلم تنتقل من صفحات الكتب وأدلة التشغيل إلى عقول الفنيين والصناعيين الذين هم عماد التطوير لو أحسنا التعامل مع إمكاناتهم وأفدنا من توظيفها.
الذين يظنون أن التعريف حجر عثرة في طريق التعليم المستمر والاطلاع على أحدث الكشوف والدراسات هم يبالغون في رسم هذه الصورة الكاريكاتورية التي ترانا أمة انقطعت عن لسان العالم والتواصل مع الآخر حتى وكأن على الجميع أن يحسن القراءة والحديث بتلك اللغة. لماذا لا يطلعون على تجربة بلد المليار وثلثمائة مليون إنسان أليسوا هم الذين يحققون التقدم السريع والمذهل حالياً دون أن تكون نسبة الذين يجيدون اللغات الأجنبية بين هذا المجموع الهائل سوى النزر اليسير؟! أليس هناك شيء اسمه مراكز للترجمة. ومؤسسات النقل بين اللغات؟! أليس العرب أقل الأمم ترجمة إلى لغتها بين أمم الأرض، وتلك رزية أخرى؟!
التعريب والدعوة إليه ليس رد فعل قومياً عاطفياً جامعاً، بل مقوم أساسي لمن يبحث عن صيغة أفضل لمقومات النهضة والتقدم. اللغة الوطنية مقوم أساسي في مسألة التقدم بدونها تفتح الأبواب لمزيد من الاستلاب الحضاري والشعور بالدونية تجاه الآخر.